إن المسلم ... كلما زادت بضاعته من العلم بنصوص الشريعة ، وفقه معانيها ، ومطالعة كلام العلماء ومؤلفاتهم وفتاويهم ... كلما كان أقدر على تصور أمور الحياة من حوله ، وفهمها فهماً مطابقاً لمراد الله U ، وموافقاً لمدلولات النصوص ، ومحققا لمقاصد الشريعة .
والعكس لو قلّت البضاعة ونقَص العلم !! فإنه سيتعذر على المسلم معرفة الحق من الباطل ... وسيصعب عليه تمييز أبسط الأمور ... خصوصا إذا كان ذلك في أمر هرِم عليه الكبير ، ونشأ عليه الصغير !!
لذا فإنه من الضروري قبل الدخول في ثنايا الموضوع الوقوف مع أسس شرعية مهمة ، عليها بناء الموضوع ، حتى يتسنى لنا تصور هذه العادات والأحكام القبَليّة ووضعها في موضعها الصحيح ، ولإدراك مدى مفارقتها للشريعة الإسلامية، حتى يسلم المسلم في حياته من منازعة عاداته وتشريعاته للشريعة الإسلامية العادلة ... وسنقف مع هذه الأسس الشرعية من خلال الوقفات التالية :
الوقفة الأولى : تكريم الإنسان ومطالب التوحيد :
لقد خلق الله U الإنسان لحكمة بالغة ... وقلّبه بين أحوال متباينة... وهو الحكيم الخبير U ... وتظهر هذه الحكمة العظيمة من خلال الحقائق التالية:
(1) " ولقد كرمنا بني آدم " :
إن الله U خلق الإنسان وكرّمه ... قال الله U : ( ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنـِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَـرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) الإسراء 70
في هذه الآية يخبر تعالى عن تكريمه وتشريفه لبني آدم ، مسلمهم وكافرهم ، فهو تكريم عام غير مشروط بشرط ولا قيد ، وكان لهذا التكريم صور كثيرة ، أذكر منها :
- أنّ الله U كرّم آدم عليه السلام بأن خلقه بيده ، ثم أمر ملائكته بالسجود له .. سجود تكريم لآدم ، وسجود طاعة لأمر الله U ، وقد ذكر المفسرون أن إبليس كان يطوف بجثمان آدم عليه السلام قبل أن تنفخ فيه الروح ، ويقول : لأمر عظيم خُلقت !!
- كما كرّم الله U آدم وذريته باستخلافهم في الأرض ... فجعل الله U الدنيا وما فيها مسخرة لهم .
وإذا تأملت في آيات الكتاب الحكيم وجدتها زاخرة بقول الله U سخر لكم ... وجعل لكم ... فقد وردت في أكثر من ثلاثيـن موضعا في كتاب الله U ... منها قول الله تعالى : ( ألَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة ) لقمان 20
فقد سخّر الله U للإنسان ما في السماء وما في الأرض ... بل وما في البحر ... فالنجوم في السماء مسخّرة للإنسان ليهتدي بها ... وسخر الله U للإنسان ما في الأرض من الدواب والأنعام والشجر وكل ما فيها ... وسخر الله U له البحر وما فيه من النعم .
- وكرّم الله U آدم وذريته فخلقهم على أحسن الهيئات وأكملها ، قال تعالى : ( لقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ) التيـن 4 ، أي : يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه .
- وكرم الله U بني آدم بالعقل عن سائر المخلوقات ، فيدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى جميع المنافع الدينية والدنيوية، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضر .
وغير ذلك كثير ... من صور الإكرام والإعزاز لآدم وذريته ، والتي تمثل جزءا يسيرا من نعم الله U على الإنسان والتي لا تعد ولا تحصى .
=========
(2) " إنا عرضنا الأمانة " :
لقد خصّ الله U الإنسان بتكريم وتشريف أعلى وأجلّ ... فبعد ذلك التكريم كله وذلك التشريف كله لبني آدم على باقي مخلوقاته، وهو الحكيم الخبير في أقواله وأفعاله U ... عرض الله U على الإنسان تكريما آخر ، أعظم وأجلّ من التكريم الأول ... وجعل عليه عظيم القدر وجزيل الثواب عنده U .
وقد تمثّل هذا التكريم والتشريف الخاص في قول الله U : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) الأحزاب 72
ففي هذه الآية الكريمة يعرض الله U أمانته المتمثلة في القيام بتكاليف العبادة بشرطها، بدءاً بتوحيده U وأداء فرائضه وحفظ حدوده ، قال قتادة رحمه الله : الأمانة هي الدين والفرائض والحدود .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : " عرض الله U الأمانة على السماوات والأرض والجبال، إن أدّوها أثابهم ، وإن ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم عليه السلام ، فقال له : إني قد عرضتُ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال : يا ربّ، وما فيها ؟ قال: إن أحسنتَ جُزيت ، وإن أسأتَ عُوقبت، فأخذها آدم فتحمَّلها "
قال السعدي رحمه الله في بيان أحوال الناس تجاه هذه الأمانة :
انقسم الناس بحسب قيامهم بها وعدمه إلى ثلاثة أقسام : منافقون أظهروا أنهم قاموا بها ظاهراً لا باطناً ، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً .
فكانت هذه الأمانة شرفا عظيما للإنسان وتكريما خاصا به ... ولكنه شرف وتكريم مشروط بشرطه ، من قيام بالتوحيد وأداء للفرائض وحفظ للحدود .
فإذا اخذ الإنسان بهذه الأمانة ، فأقام توحيد الله U على أصوله وأدى فرائضه وأقام حدوده ، جمع الله له مع التكريم الأول تكريما آخر أعظم وأجلّ في الدنيا والآخرة ، فكان أكمل عند الله U من كل شيء، حتى من ملائكته U، قال ابن تيمية رحمه الله : " إن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية والملائكة أفضل باعتبار البداية ، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب ، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر ، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير صالحوا البشر أكمل من حال الملائكة " .
أما إذا ضيّع الإنسان هذه الأمانة ، فأفسد توحيد ربه U ، وضيّع فرائضه ، وتعدّى حدوده ، فقد حقت عليه الإهانة من الله U ، وكان أقل شأنا عند الله U حتى من بهيمة الأنعام ، قال تعالى : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ) الفرقان44
وإن مما يستحق الوقوف عنده ، أن كل مخلوقات الله U توحِّد الله وتسبحه ، وتسجد له ، ولكل منها عبادة تختص بها ... أما بنو آدم ... فإن منهم الموحد لربه ... ومنهم المناقض لتوحيد الله ... قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) الحج 18
أي : ألم تعلم أيها النبي أن الله سبحانه يسجد له خاضعًا منقادًا مَن في السموات من الملائكة ، ومَن في الأرض من المخلوقات ، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ؟ ولله يسجد طاعة واختيارًا كثير من الناس ... وهم المؤمنون ، وكثير من الناس حق عليه العذاب فهو مهين ... وأيُّ إنسان يهنه الله فليس له أحد يكرمه. ، إن الله يفعل في خلقه ما يشاء وفق حكمته .
=========
(3) مطالب التوحيد وثماره :
إن مدار كرامة الله U للإنسان على قدر تحقيقه لغاية وجوده وسبب خلقه ، وهو التوحيد الخالص لله U ، فان التوحيد كما أن له ثمارا عظيمة ، فإن له مطالب جليلة ... وإن استحقاق المؤمنين الموحدين لكرامة الله U وتشريفه لهم ، هي نظير قيامهم بالتوحيد الخالص لله U.
ويتحقق هذا التوحيد بتحقيق نوعيه :
1- توحيد الله U وإفراده بربوبيّته وأسمائه وصفاته ...
فالمؤمنون يوحِّدون الله U ويفردونه بمعرفة أفعاله وأسمائه وصفاته حق المعرفة ، ثم يحققون ما يترتب عليها من معاني العبودية الحقّة ، فيتوجهون بها إليه U ويصرفونها له لا لغيره .
فإن المؤمنين إذا عرفوا أن الله هو الخالق الرازق ، المدبر المتصرف، النافع الضار ، الحكيم الخبير ... تعلقت قلوبهم به ، واشرأبت أعناقهم إليه، واطمأنت نفوسهم إليه ، فقبلت بعبوديته ، ورضيت بحكمه وتدبيره، وملأت عظمتُه نفوسَهم وقلوبهم وعقولهم ، فلا يلتفتون إلى غيره ، ولا يأبهون بسواه ، فهو U المستحق لذلك كله .
وإذا عرفوا أنه الحكم الحكيم ، وأن الحكم له U ، وأنه العدل في شأنه كله ، فلن ترضى نفوسهم بغير حكمه ، وسيصغُر في عيونهم كل من سواه ، ولن يتوجهوا إلى غيره بأي حال من الأحوال .
وهذا أول ثمار توحيد الله U وإفراده بربوبيته وأسمائه وصفاته .
2- توحيد الله U وإفراده بألوهيّته بأقوالنا وأفعالنا ...
فالمؤمنون إذا عرفوا كلمة التوحيد " لا اله الله محمد رسول الله " وعرفوا مقتضاها ، وحققوا معنى هذه الكلمة العظيمة تمام التحقيق ، بالوفاء بشروطها ، وانتفاء موانعها ...
فحققوا العلم والمعرفة بمعناها ... فلم يجهلوا شيئا من معناها ...
وحققوا شرط المحبّة لها ، ولشريعتها المحققة لها ... فلم يبغضوا أو يكرهوا شيئا منها ...
وحققوا اليقين التام بأنها سبيل الفلاح والنجاح ... وأن غيرها سراب مضلل لأهله ...
وحققوا قبولها وقبول شرائعها ، ورضوا بها وانقادوا لها ... من غير تردد ولا تأرجح ... ولا شكوك في نفعها وصلاحها لهم ولحياتهم ...
وحققوا الإخلاص لله U والصدق معه ...
وحققوا البراءة لله U من كل ما خالفها وعارضها ...
فتلك معاني عظيمة ... لا تتحقق كلمة التوحيد إلا بها .
فإذا تحقق التوحيد بتلك الصورة المشرقة ، استحق المؤمنون تكريم الله U وتشريفه لهم ، فكانت حياتهم الدنيا بداية سعادتهم وكرامتهم ... ودام لهم تكريم الله وتشريفه إياهم ، حتى يضعوا رحالهم في جنات النعيم ... وبجوار رب كريم ، فيضفي عليهم رضاه ، وتنعم أبصارهم برؤياه U ... فيسعدون سعادة دائمة ، وينعمون نعيما مقيما ... لم تر الأعين، ولم تسمع الآذان بمثله ، ولم يخطر على قلوب البشر .
===========
الوقفة الثانية : منزلة تحكيم الشريعة في العقيدة :
إن ارتباط تحكيم الشريعة بالعقيدة ارتباط كبير وأساسي ، وليس مجرد صلة من بعيد لا يؤثر في العقيدة ، فالارتباط وثيق جدا بين تحكيم الشريعة وبين توحيد العبادة وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو ارتباط وثيق جدا بالإيمان والإسلام والشهادتين .
وتتجلى صور هذا الارتباط المتيـن من خلال العناصر التالية :
1- ارتباط تحكيم الشريعة بتوحيد العبادة :
كثيرا ما تجد الارتباط في نصوص الشريعة بين تحكيم الشريعة وتوحيد العبادة ، منها قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ) التوبة 31
ولما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي r وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ) قال : فقلت له : إنا لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرم الله فتحلّونه ، قال : قلت بلى ، قال : فتلك عبادتهم
قال ابن تيمية رحمه الله بعد إيراده لحديث عدي : " فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعُه ، والحرام ما حرّمه ، والحلال ما حلّله ، والدين ما شرعه ... إما دينا ، وإما دنيا ، وإما دينا ودنيا ، ثم يخوّف من امتنع من هذا الشرك ، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله "
2- ارتباط تحكيم الشريعة بتوحيد الربوبية :
الارتباط بين تحكيم الشريعة وتوحيد الربوبية ظاهر في نصوص الشريعة ، منها قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ) الأحزاب٣٦ ، وقوله تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين ) الأعراف٥٤ .
فلا يتحقق توحيد الربوبية إلا بقبول قضاء الله U وحكمه ، والإذعان له .
3- ارتباط تحكيم الشريعة بتوحيد الأسماء والصفات :
إن الارتباط بين تحكيم الشريعة وبين توحيد الأسماء والصفات أمر ظاهر للعيان ... ويظهر هذا الارتباط بوضوح من خلال معاني أسماء الله U الحكم والحاكم والحكيم ، وما يترتب عليها من آثار .
فقد ورد اسم الله U " الحكم " في آية واحدة ، هي قوله تعالى : ( أَفَغَيْـرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) الأنعام 114
قال ابن جرير رحمه الله : فليس لمسلم أن يتعدى حكمه U لحكم غيره ، لأنه لا حَكم أعدل من الله ، ولا قائل أصدق منه U .
وقال ابن تيمية رحمه الله : " فإن الله سبحانه وتعالى هو الحكم الذي يحكم بيـن عباده ، والحُكم له وحده ، وقد أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ليحكم بينهم ، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين ، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة ، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب "
وورد اسم الله U " الحاكم " بصيغة الجمع في 5 آيات ، منها قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) التين 8
قال ابن كثير رحمه الله : الذي لا يجور ولا يظلم أحدا .
وورد اسم الله U " الحكيم " في 94 آية ، منها قوله تعالى : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم ) الأنفال 67
قال ابن جرير رحمه الله : الحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل .
وقال ابن كثير رحمه الله : " الحكيم في أفعاله وأقواله U ، فيضع الأشياء في محالّها بحكمته وعدله "
وكثيرا ما تجد في القرآن الكريم اختتام آيات الأحكام باسم الله " الحكيم "
وقد أمر الله U نبيه ورسوله محمدا r بالحكم بين الناس بما أنزله الله عليه من الأحكام الربانية وترك ما سواها من الآراء والأهواء فقال تعالى : ( فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّه ) المائدة 48 .
كما أمر الله U جميع أنبيائه ورسله بما أمر به محمدا r من الحكم بين الناس بما أنزله الله U عليهم من الكتاب والحكمة .
وهذه الأسماء والصفات العظيمة لله U لها آثار عظيمة على المسلم إذا عرفها وعرف معانيها ...
فمن آثار معرفة أسماء الله U وصفاته ما يلي :
- أول هذه الآثار اليقين التام أن الحكم لله U لا شريك له في حكمه ، كما لا شريك له في عبادته ، ولا في ربوبيته ، ولا في أسمائه وصفاته ، قال تعالى : ( ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) الكهف ٢٦ ، فهو U يحكم في خلقه بما يشاء ، فيحلّل لهم ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء ، ويوجب عليهم ما يشاء ، فله الحكمة البالغة والإرادة النافذة في ذلك كله .
وهو سبحانه من يستحق أن يكون له الحُكم ، وهو U من اتصف بصفات الحاكم الحق العدل ، فمن صفاته U أنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويُتوكل عليه ، وانه الخالق الرازق العالم بما يُصلح عباده ، فهو الجدير بالحكم بين عباده ، وهو العالم بغيب السماوات والأرض ، وهو العالم بما يُصلحها ويقيم أمرها .
- ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته : محبة الله U المحبة العظيمة ، لظهور حكمته في رعاية مصالح خلقه بهذه الشريعة التي حفظت للإنسان دينه ونفسه وعقله وماله وعرضه وكفلت له الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة .
- ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته : تعظيم الله U والخوف منه سبحانه والحياء منه والتأدب معه U بإخلاص العبادة له والتماس مرضاته وتجنب مساخطه .
- ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته : شعور الغبطة والسرور بالهداية إلى هذه الشريعة العظيمة التي هي من لدن الحكيم U ، ثم الشكر له U على هذه الهداية ، والمحافظة عليها وتجنب أسباب زوالها والسعي لنشرها بين الناس .
- ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته : الإذعان لأحكام الله U الدينية ، وأوامره الشرعية والاستسلام التام لها ، وألا يكون في القلب منها أدنى ريبة أو حرج.
- ومن آثار معرفة أسماء الله وصفاته : الرضا بان ما يقضيه الله U ويحكمه من أحكام فيها الحكمة البالغة ، وفيها الصلاح والخير في الحال وفي المآل ، مما نعلمه وما لا نعلمه مما يعود إلى كمال علمه وحكمته .
4- ارتباط تحكيم الشريعة بالإيمان :
لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة في تأكيد الارتباط الوثيق بين تحكيم الشريعة والإيمان ... فلا يستساغ أن يجهلها أحد من المسلمين الموحدين .
ومن أعظم النصوص الجامعة في ذلك ، والذي يستحق الوقوف معه ، ومعرفة تفسيره وما فيه من أحكام جليلة ، قوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيداً * وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا * ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا ) النساء 59 - ٦٥ .
فما أعظمها من آيات ... وكم هي جديرة بقراءتها وتدبرها وقراءة تفسيرها وفقه معانيها
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع في شرح هذه الآيات الكريمة : " تضمنت التوحيد واستلزمت تحكيم الرسول r في موارد النزاع ، إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا اله إلا الله ولازمها الذي لابد منه لكل مؤمن ، فان من عرف أن لا إله إلا الله فلابد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد r ، فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول r في موارد النزاع فقد كذب في شهادته "
وقال محمد بن إبراهيم رحمه الله في شرح الآية : " نفى الله U الإيمان عمن لم يحكّموا النبي r فيما شجر بينهم نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم ، ولم يكتف الله تعالى وتقدس منهم بمجرد عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم ، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب ، ولم يكتف تعالى أيضا بهذين الأمرين حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه r فيتخلّون من أي تعلّق للنفس بغير حكمه ويسلّموا لحكمه الحق أتم تسليم" .
5- ارتباط تحكيم الشريعة بالإسلام :
لا يتحقق الإسلام إلا بتحكيم الشريعة ، فإن أساس الإسلام هو الاستسلام لله وقبول ما أنزله ، والانقياد له بطاعته ، وأدلته كثيرة ، منها قوله تعالى : ( ومَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) لقمان 22
قال الطبري رحمه الله : " إسلام الوجه لله يعني التذلل له بطاعته والإذعان لأمره ، وإنما سمي المسلم مسلما لخضوع جوارحه لطاعة ربه "
ومنها قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين ) البقرة 208
قال الطبري رحمه الله : " هذا أمر بالعمل بجميع شرائع الإسلام ، وإقامة أحكامه وحدوده دون تضييع بعضه والعمل ببعض " .
6- ارتباط تحكيم الشريعة بالشهادتين :
إن ارتباط تحكيم الشريعة بالشهادتين أمر واضح بيّن ، فارتباط تحكيم الشريعة بشهادة أن لا اله إلا الله قد سبق بيانه في ارتباط تحكيم الشريعة بتوحيد العبادة .
أما ارتباطها بشهادة أن محمدا رسول الله ، ففيه الكثير من النصوص ، منها قوله r : " ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا "
قال ابن القيم رحمه الله : " تضمن هذا الحديث الرضا بربوبية الله سبحانه وألوهيته ، والرضا برسوله والانقياد له ، والرضا بدينه والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا ، وهي سهلة بالدعوى واللسان ، وهي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان ... " .
ثم قال في شرح الرضا بدينه : " وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى ، رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه ، وسلّم له تسليما ، ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواه ، أو قول مقلده وشيخه وطائفته " .
==============
الوقفة الثالثة : وجوب تحكيم شرع الله U ونبذ ما خالفه :
إنّ أمر الشريعة وتحكيمها أمر دين ، لا يتحقق الإيمان إلاّ بالإذعان لها والاحتكام إليها ، فلو انفرد التصديق لم يتحقق الإيمان ، ولو انفرد الإذعان والعمل لم يتحقق الإيمـان ، فلا بدّ في تحقق الإيمان من اجتماع التصديق والإذعان ، والقول والعمل ، وهذا من الدين كالمعلوم ضرورة ، وقد تواترت به أقوال علماء الأمة سلفا وخلفا .
ويُستدل لوجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والعقل والمصلحة ، ( وقد سبق تحت عنوان منزلة تحكيم الشريعة من العقيدة من النصوص الشرعية وأقوال العلماء ما يجلّي هذا المعنى ) .
وسأقتصر هنا على كلام نفيس للإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله ، حيث قال :
" بيّن الله U أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين ، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين ، يقول سبحانه :
( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون ) المائدة 49، 50
وإن القارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله U أُكّد بمؤكِّدات ثمانية :
الأول : الأمر به في قوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) .
الثاني : أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال ، وذلك في قوله : ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) .
الثالث : التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير ، والصغير والكبير ، بقوله سبحانه : ( واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ).
الرابع : أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم، موجب للعقاب الأليم ، قال تعالى : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم ) .
الخامس : التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله ، فإن الشكور من عباد الله قليل ، يقول تعالى : ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون ) .
السادس : وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية ، يقول سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون ) .
السابع : تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها ، يقول عز وجل : ( ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ) .
الثامن : أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها ، وأتمها وأعدلها ، وأن الواجب الانقياد له ، مع الرضا والتسليم ، يقول سبحانه : ( ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون ) .
وهذه المعاني موجودة في آيات كثيرة في القرآن ، وتدل عليها أقوال الرسول r وأفعاله .
=============
الوقفة الرابعة : أحوال الحاكمين بغير ما أنزل الله :
الشريعة هي عدل الله U بيـن عباده، ورحمته بيـن خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله r .
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بوجوب نبذ ما سوى الشريعة من أحكام الجاهلية وأهوائها ، وأن أحكام الجاهلية مشاققة للرسول r، وأنها مما يفرّق المسلمين ، وأنها مما يُضل عن سبيل الله U ، وأنها مما يفضي إلى فقدان ولاية الله ونصرته ، وأنها هي الكفر والظلم والفسوق .
وما أجمل كلام الإمام ابن عثيمين رحمه الله يوم قال :
" وصف الله U الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف ، قال تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) المائدة 44 وقال تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ) المائدة 45، وقال تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) المائدة 47 .
فيكون الحاكم بغير ما أنزل الله أحد ثلاثة :
1- يكون كافراً بالله عز وجل في ثلاثة أحوال :
- إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله ، بدليل قوله تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) المائدة 50 فكل ما خالف حكم الله ، فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فالمُحلّ والمُبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حِلّ الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن .
- إذا أعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله .
- إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، لقوله تعالى : ( ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون ) المائدة 50 فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام ، بدليل قوله تعالى مقرراً ذلك : ( أليْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) التيـن 8 ، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاماً وهو أحكم الحاكمين ، فمن ادعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مُكذّب للقرآن .
2- يكون ظالماً :
إذا أعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام ، وأنه أنفع للعباد والبلاد ، وانه الواجب تطبيقه ، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم .
3- يكون فاسقاً :
إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله U هو الحق ، لكنه حكم بغيره لهوى في نفسه ، أي محبة لما حكم به لا كراهية لحكم الله ولا ليضر أحداً به ، مثل : أن يحكم لشخص لرشوة رُشِيَ إياها ، أو لكونه قريباً أو صديقاً ، أو يطلب من ورائه حاجة ، وما أشبه ذلك ، مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب إتباعه ، فهذا فاسق ، وإن كان أيضاً ظالماً ، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم .
================
الوقفة الخامسة : حرمة دماء المسلمين ، وخطورة الوقوع فيها :
لقد حفلت شريعة الإسلام بالنصوص الشرعية الكثيرة من القرآن الكريم والسنة الشريفة ، التي تبين عِظم دماء المسلمين وحرمتها ، وخطر الوقوع فيها وإراقتها ، ومن هذه النصوص الكريمة ما يلي :
- من أعظم نصوص الشريعة في ذلك ... ما ورد في كتاب الله U في عقوبة من قتل مسلما !! وما فيه من الوعيد الشديد للقاتل ... قال الله تعالى : ( ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) النساء: ٩٣ ،
في هذه الآية العظيمة وعيد شديد لمن قتل مسلما ... فقد توعّد الله عز وجل القاتل بالخلود وطول المكث في جهنم ، وبغضب الله عليه ، ولعنة الله له ... نسأل الله العافية والسلامة .
- اجتمع لرسول الله r في حجة الوداع جمع لم يجتمع له مثله ، فخطب فيهم خطبة جامعة ، اشتملت على ما تحتاجه أمّة الإسلام من شرائع دينها ، وقد سميت حَجته r بحَجة الوداع ، فقد مات r بعدها بثلاثة أشهر .
وكان مما قال r في خطبته : " أيها الناس ، أي شهر هذا ؟! " فقلنا: الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال r : " أليس ذا الحجة ؟! " قلنا بلى .
فقال r : " أي بلد هذا ؟! " فقلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال r : " أليس البلد الحرام " ، فقلنا : بلى .
فقال r : " أي يوم هذا ؟! " فقلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال r : " أليس يوم النحر ؟! " فقلنا : بلى .
قال r : " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا !! وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ثم ردد ثلاثا ... ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد ، يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الناس "
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r قال : " أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم ، ومبتغٍ في الإسلام سُنّة الجاهلية ، ومُطّلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه "
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r : " لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما "
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله r أنه قال : " لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار "
ونصوص الشريعة في تعظيم دماء المسلمين وتحريمها كثيرة صحيحة صريحة ، وهي مما علم من الدين بالضرورة ، والواجب المتعيّن على المسلم الحذر والاحتراز من دماء المسلمين فلا يعتدي عليها ، وإن عاقبة ذلك عاجلة في الدنيا ، وآجلة في الآخرة .