خامسا : عادة الغرم ...



          هي حلقة الختام في مشهد الحكم ، ولحظة إسدال الستار في عادات القوم وأعرافهم في الدماء ، وهي البند الخامس في قانون الدماء .

والغرم هو حلف إلزام بين القرابة أو القبيلة ، بالالتزام بحمل ما يترتب على القرابة أو القبيلة من المثارات أو الديات أو معونات القبائل .

وتتسلسل عادة الغرم من خلال أعمالها التالية :

- قامت العادة والعرف على قيام قبيلة الجاني بحمل حمالة الحكم القبَليّ ... وإلا لما صار لهذه الأحكام أي معنى أو اعتبار !!                   
وقد أسموه " الغرم " لتأكيد من هو الغرّام !! الذي يحمل مع قريبه كل كوارثه مهما كانت الظروف ، فيُحفظ بذلك وجه القبيلة وشرفها من الإهانة أو الانتقاص !!

- وهذا الغرم يأخذ عدة مسميات ، فقد يسمى صندوق القبيلة     أو حضن الجماعة ، وقد يسميه بعضهم جمعية الجماعة لتلطيف اسمه وتلبيس حكمه ، أما هدفه الأساس الذي قام من أجله فهو شد أزر الأحكام والأعراف القبلية ، وضمان نفاذها ودفع ما يترتب عليها .

وقد عطّلت عادة الغرم حكم الشريعة في العاقلة !! ومنعت منها إلا بحمل غيرها من أحكام الغرم القبَليّ ، علما أن القضاء لا يُقرّ ذلك !      بل يلزم العاقلة بالقيام بأحكامها دون اعتبار لغيرها .

- تقوم قبيلة الجاني بحمل مبالغ الحكم القبَليّ ، ودفعه للمجني عليه وقرابته ، حيث يتقاسم أفراد قبيلة الجاني دفع المبلغ ، حسب ما يرونه وحسب ما تحدده كل قبيلة لنفسها .

أما المغارم ... فقد تدعو الحاجة إلى الاستعانة بالقبائل الأخرى ، حيث تقام المغارم في أماكن مشهورة تطلب فيها القبيلة العون والمساعدة من القبائل الأخرى... ويعتبرون ذلك دَينا لهذه القبائل ... لا بد من يوم يُرد فيه .

كما أن المغارم تعتبر موقف شرف وعز وترابط بين هذه القبائل ... وبغض النظر عن سبب هذه القضية أو تلك !! ولا يمكن أن تتأخر أي قبيلة في مثل هذه المواقف !! لان هذا عار عليها ... فانه لا بد لهذه القبيلة بزعمهم من يوم أسود وزمان مائل تحتاج فيه إلى هذه القبائل !!

- لا يستطيع أحد من أفراد قبيلة الجاني عدم الدفع !! ومن يفكر في ذلك يتعرض للأذى المادي والمعنوي ، ويُتّهم بالبخل ، وبالجهل بالمواجيب، وبالرخامة !!  كما يهدَّد بالقطع من القبيلة وخروجه منها ، كأنه قد ارتكب جرما يستحق عليه التعنيف والإيذاء !!  فلا يُدفع معه فيما يحدث له من حوادث الدنيا ... بما في ذلك حوادث جنايات الخطأ ، التي جعلتها شريعة الإسلام واجبة على العاقلة ، ولا خيار لأحد في التملص منها أو رفض أدائها .
  ============ 

فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في حكم صناديق القبائل :
أما حكم هذه الصناديق ، فقد تعددت أسئلة الناس عند سؤال اللجنة الدائمة للإفتاء عن صناديق القبائل ، وكان جوابها جوابا موحدا ، وأن هذه الصناديق لا تختلف عن بعضها من قبيلة لأخرى ، ما دامت حول أمور جنايات العمد بأشكالها ، وما دامت لم تقف على جنايات الخطأ التي قررت الشريعة قيام العاقلة بها ، وهذه الفتاوى من الكثرة بمكان ، ولعل أوجزها وأشملها فتوى اللجنة رقم 18982 وتاريخ 19/7/1417هـ .

وكان السؤال :
" عندنا اتفاقية بين أفراد القبيلة على التعاون على تحمل الدماء التي تلحق بالقبيلة ، فما حكم هذه الاتفاقية ؟ "

وكان جواب  اللجنة:
" إن هذه الاتفاقيات مشتملة على إلزامات غير شرعية ، وتحدث البغضاء والشحناء بين الناس ، فالواجب الابتعاد عن هذه الاتفاقيات وتركها ، ولأنه قد تقرر شرعا انه لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " أ. هـ .
 ================ 

أحكام العاقلة في الشريعة الإسلامية :
لقد عرّفت شريعة الإسلام من هي العاقلة ؟ وما حقوقها وواجباتها ؟!  فقد أوجبت الشريعة على العاقلة وهم الآباء والأبناء والإخوة والأعمام وأبناؤهم أن يحملوا جناية الخطأ وشبه العمد التي تحدث لأحدهم ، وليس لأحد منهم الحق في التملص أو الامتناع عن حمل ذلك ... ومن امتنع عن الحمل مع عاقلته فإنه يأثم بذلك ، ويطالب شرعا عند القضاء بإلزامه بالحمل مع عاقلته .

والفاصل في هذا الأمر، وتحديد العاقلة وما تحمله هو القضاء الشرعي المكلف بهذه  المهمة .
وعليه فإن عادة الغرم من المنكرات الظاهرة ، حيث إنها طمست أحكام الشريعة في العاقلة ، وربطتها بغيرها ، واشترطت للالتزام بها أن يقوم أفراد العاقلة بحمل غيرها من جنايات العمد ، وما ترتب على الأحكام القبَليّة من أموال وأحمال !! ومن لم يحمل كل ذلك لا يُحمل معه ما أوجبته الشريعة من أحكام على العاقلة ، بينما حمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد تكليف من الشارع لا يقدر أحد على نفيه ولا التملص منه ، ولا ربط القيام به بشرط من عنده ، فقد أوجب ذلك النبي r  في الأحاديث الصحيحة الصريحة .
  =========== 

فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في الفرق بين العاقلة الشرعية والصناديق القبليّة :
يذكر البعض أن الغرم هو العاقلة ، وأنه يقوم مقامها ، وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم 22400 وتاريخ 19/5/1423هـ ، على الاستفتاء المقدم من أمير منطقة عسير بطلب دراسة اتفاقيات القبائل المرفق صورة منها ، وإصدار فتوى تبين حكم تلك الاتفاقيات والعمل بها .

وقد كان جواب اللجنة على الاستفتاء كما يلي :
" بعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنها اطلعت على الاتفاقية المرفقة ، وقد ظهر لها أن على هذه الاتفاقية ملحوظات منها :
ورد في بند خامسا عبارة : ( والصندوق كعاقلة ملزمة للقبيلة ) ويَرد على هذه العبارة أمران :

الأول : أن جعل الصندوق كالعاقلة غير صحيح ، لان الاشتراك في الصندوق أمر اختياري ، بينما العاقلة أمر لا اختيار فيه .

الثاني : جعْلُ الصندوق ملزما لأفراد القبيلة لا وجه له ، لأنه إلزام لهم بما لم يلزمهم به الشرع " أ. هـ .
 ============

تقرير الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله لحقيقة وحكم عادة الغرم :
ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله هذه العادة ، فقال :
" 15- ومن هذه المنكرات ما يُعرف " بالغرم " وهو أن يُفرض على كل ذكر صغير أو كبير دفع ما يترتب على القبيلة من دية المتوفين ، سواء بسبب حوادث السيارات أو القتل الخطأ أو الشّجاج ، وكذلك القتل العمد ، وهذا إلزام باطل لم يوجبه الله ولا رسوله r  " .
============

شبهة : هل صندوق الغرم عاقلة شرعية أم صندوق تعاوني ؟! :
قبل الإجابة على هذه الشبهة ، هناك نقاط يلزم التأكيد عليها :
1- العاقلة الشرعية لها صورتها وصفتها ، التي دلّت الأدلة الشرعية على وجوبها .
2- الصناديق التعاونية لها صورتها وصفتها ، التي دلّت الأدلة الشرعية على جوازها واستحبابها .
3- صناديق الغرم لها صورتها وصفتها ، التي دلّت الأدلة الشرعية على تحريمها والمنع منها .

ولذلك يجب التمييز بين هذه الصور ، وعدم الخلط بينها بتاتا ، حتى يتم التصور الصحيح لكل منها .
ولما تواترت فتاوى لجنة الإفتاء وتكاثرت في تحريم صناديق الغرم ووجوب مقاطعتها ، وأنها من التحكيم بغير ما أنزل الله ، وأنها من أكل أموال الناس بالباطل ... وقع الخلط ، وبدأت محاولات تنزيل صناديق الغرم على العاقلة تارة ، وعلى الصناديق التعاونية تارة أخرى ... واختراع المسميات لصناديق الغرم تارة ثالثة !!  تلطيفا لاسمها ، وتلبيسا لحقيقتها .

وأخيرا فهذه ضوابط مهمة تحقق التمييز وتمنع الخلط في الموضوع :

1- فمن حيث الأصل : فالعاقلة الشرعية إلزام شرعي على القرابة يحرم التملص منها أو الامتناع عن حملها .

والصناديق التعاونية عمل بر مستحب ، مبني على الاختيار.

بينما صناديق الغرم عادة قبَليّة محرّمة ، مخالفة لأحكام الشريعة .

2- ومن حيث الحكم : فالدفع في العاقلة واجب من الشريعة على الأقرب فالأقرب ، وحسب القدرة المالية .

والدفع في الصناديق التعاونية مستحب ومندوب إليه وعلى الاختيار ، وحسب القدرة المالية فقط ، فيكون الدفع فيها برضا وطيب نفس، ولا يجوز فيها إلزام مادي أو معنوي لأحد .

بينما يكون الدفع في صندوق الغرم بإلزام من العادات والسلوم وبدون اعتبار للقدرة المالية ، ويحرم الدفع فيها ولو برضا وطيب نفس ، ما دام الفعل محرما من أصله .

3- ومن حيث جهة الصرف : فتُصرف العاقلة في ديات الخطأ وشبه العمد ، بما أوجبه الله على أهلها .

وتُصرف الصناديق التعاونية فيما أباحه الله من أعمال البر والتقوى .

بينما تُصرف صناديق الغرم في مقرّرات ومقدّرات العادات والأحكام القبَليّة . 
وعليه فلا يمكن أن يحلّ محل العاقلة الشرعية شئ مما سبق ، نظرا لاختلاف أصل المسألة ، واختلاف الحكم ، واختلاف أوجه الصرف .