صورة ومكوّنات القوانين القبلية في الدماء ...


      إن هذه العادات والسلوم والأحكام القبَليّة  ... ليست وليدة اليوم ، بل هي عادات قديمة ممتدة إلى زمن الجاهلية الأولى،  وقد ضربت بأطنابها في أوساطنا ، فورِثها الأبناء عن الآباء عن الأجداد ، ولا يمكن تصورها على وجهها الصحيح إلا بمعرفة حقيقتها في ارض الواقع .

ومن فضل الله علينا أن بلادنا تحكِّم الشريعة الإسلامية في مجريات الحياة ، وقد انتشرت المحاكم الشرعية في أنحاء بلادنا الكريمة، إلا أن هذه المحاكم لا زالت مغيّبة عند بعض القبائل وراء القوانين القبَليّة والأعراف والسلوم ، والتي أصبحت مرجعا ومستندا يتحاكمون إليها عند النزاع والخصومات بين الأفراد والجماعات .

فكان لكل قبيلة سلوم تعرف بسلوم قبيلة كذا ، وسلوم قبيلة كذا ... وكان لرجال الحكم منهم سلوم تُعرف بهم ... فتُسمى سلم ابن فلان ، وسلم ابن فلان ... وهكذا ... فأصبحت قوانين مشهورة ومواد معروفة ... تتفق في عمومياتها ، وتتفاوت في بعض جزئياتها !!

وكان لهذه القوانين والسلوم رجال يُسمَّونهم ( الحق )  أو ( مقطع الحق ) أو ( العرَّاف ) ، يحفظون بنودها ، ويتقنون موادها ، فكانوا قضاة هذه القوانين والسلوم .

وقد تعارفوا على قواعد تلزم بهذه العادات والأحكام ، وتُرجف بمن يخالفها ولا يلتزم بها ، وهي كثيرة ، ومن أهمها :

السواد :
حيث ترفع راية السواد في الأماكن العامة ، وفي المجالس ... لمن يخالف هذه العادات سواء كان فرداً أو قبيلة !! فيعتبر أسود وجهٍ !! من لا يمتثل لهذه العادات ، أو يخالف موادّها !!

وإذا أشكل أمر في تلك القاعدة، فإنهم يتحاكمون إلى مقاطع الحقوق العارفين بالعادات والسلوم، فيحكمون أن فلان أو القبيلة الفلانية سودان وجيه !! إذا لم يمتثلوا عادة من عاداتهم ، أو خالفوا شيئا منها !!

ومن حكموا بسواد وجهه ... فإنه يترتب على ذلك تصنيفات عرفية ، ومضايقات اجتماعية !!  تهدف في أوساطهم إلى تنقُّص قَدر وقيمة المخالف لعاداتهم !!

وليت شعري ... أي سواد يزعمون ؟! إنما السواد والبياض عند لقاء الله  U ... فكل التهاني لمن ابيضّ وجهه عند لقاء ربه ... وكل التعازي لمن اسودّ وجهه هناك .

 ولقد شابهت هذه العادات والسلوم القوانين الجاهلية الحديثة في شرق الأرض وغربها ... وحملت معها راية العلمانية المنادية بإبعاد أحكام الدين عن حوادث الدماء... واتفقت معها على الحيف والظلم والجور على أحد طرفي النزاع ... واتفقت معها على تنقُّص أحكام الشريعة وأنها لا تفي بحقوق الناس ولا تفضّ النزاع بينهم ...

والحقيقة التي لا شك فيها ... أن أحكام الشريعة الإسلامية قد خالفت أحكام الجاهلية بكل أشكالها ومضامينها ، فحفظت الدين من الهلاك والدمار ، وحفظت النفوس من الفخر والكبرياء ، وحفظت الدماء من الاعتداء ، وحفظت الحقوق من الانتهاك والضياع ، وضمنت بعد كل ذلك الفوز  والفلاح عند لقــاء الله U .

ومن المؤسف محاولة بعض مشايخ وأعيان القبائل تصدير هذه العادات إلى القبائل الأخرى !! بدلا من السعي إلى القضاء عليها ، وحفظ التوحيد من مخاطرها ، ورحمة الناس من مفاسدها .

ومن المؤسف كذلك ... تمجيدُ بعض المؤلفين في عادات الناس ، لعادات الدماء والثناء عليها ، وسرد أسماء القائمين بها افتخارا بفعلهم !!  وسوق الأدلة باعوجاج على شرعيتها ، وتنقُّصُ العلماء الذين تكلموا في هذه العادات وحذروا منها !! وكان الأجدر بهم تعظيم ربهم وتوحيده ، ودلالة أهلهم وقومهم إلى سبل الرشاد ، واعتماد فتاوى علمائنا الأجلاء في فهم نصوص الشريعة ، بدلا من الخوض فيها بغير علم راسخ ، وحجة بيّنة .

 وتتمثل صورة هذه العادات والأحكام في عدة بنود ... وهي بنود  ثابتة لا تتغير في جميع أحوالها ...
فعند حدوث جناية بين طرفين من تلك القبائل ... فإن الحادثة تمر بمراحل ( تمثل بنود قانون الدماء ) ، ولا يمكن أن تخلو صورة من صور هذا القانون القبَلي من تلك البنود ، والتي تتلخص فيما يلي :

1- المثار :
وهو سعي قرابة المجني عليه أو المعنيّين به ، وبتأييد من كبار القوم لجلي العار وأخذ الثأر من قرابة الجاني ، ومن أي فرد منهم !!

ولهذا المثار مسميات متعددة لكل منها مدلوله ، منها : مثار القريب والعاني والجار والضيف ، ومثار الوجه ... والمثار الأبيض والمثار الأسود      أو الغضب ..  ومثار الدم  ومثار الدسم  وغيرها من الأنواع والمسميات ، وسيأتي تفصيلها .

2- الجيرة ( ردّيّة الشان ) :
وهي توفير الأمن والحماية للجاني وقرابته من خلال تهديد وتوبيخ  المجني عليه وقرابته ، حيث :

- تقوم قرابة الجاني بطلب الجيرة والمنع من قبيلة أخرى تربطها بقبيلة الجاني وبقبيلة المجني عليه قرابة محددة في هذا القانون .

- تقوم القبيلة المجوّرة بحمل السلاح ومنع الجاني وقرابته ، وتهديد المجني عليه وقرابته بعدم المساس بالجاني أو بأي أحد من قرابته .

- تكون لهذه الجيرة مدة محددة حسب الجناية ، فتكون الجيرة سنة وشهرين في جناية القتل ، وستة أشهر في جناية الجروح والكسور ، وثلاثة أشهر في جناية الضرب فقط .

- إذا اعتدت قرابة المجني عليه على أحد من قرابة الجاني ، فإن القبيلة المجوّرة تقوم بأخذ الثأر من قرابة المجني عليه ومن أي فرد من أفرادها !! لاعتدائها على وجهها وجيرتها ثم تطلب حكما قبَليّا يرد اعتبارها ...  وهذا ما يُعرف عندهم بمثار الجيرة أو الوجه .

- من أنواع هذه الجيرة ما يسمونه جيرة الغضب أو جيرة الأسود ، وسيأتي بيانها .

- إذا لم يتجوّر الجاني وقرابته ... فإن المجني عليه و قرابته  يرون ذلك إهانة لهم وتقليلا من شأنهم ، فيطلبون التحاكم إلى مقطع حق لإنصافهم وردّ اعتبارهم !!

3- الحكم وفض النزاع :
هو تحديد الحقوق وتقدير الشجاج ، وفض النزاع بين الخصوم وفق العادات والسلوم والقوانين القبَليّة ، وعلى أيدي قضاتها القبَليِّين الذين عَرفوا وأتقنوا مواد القانون القبَليّ ، وعُرفوا بمسمى : الحق أو مقطع الحق أو العُرّاف ، حيث :

- تبدأ المشاورات وتحديد مشايخ القبائل العارفين بالسلوم والقوانين القبَليّة ، الذين سيحكمون في القضية .

- في الموعد المحدد يحضر مشايخ وأعيان القبائل ، ومعهم قبيلة الجاني ، ويكون الجميع في موقف خضوع وتذلّل ، وفي وضع امتهان خاص .

- تبدأ المداولات .. وتدلي قبيلة المجني عليه بتظلمها ومطالبتها برد اعتبارها وإملاء مطالبها ، وطلبها أيمان قرابة الجاني .

- يبدأ بعدها مشايخ القبائل بمداولات الحكم والمشاورات الخاصة بينهم، ثم يحكمون بأحكام وأيمان ومبالغ مالية ، وفق سلومهم وما فيها من تقديرات، وأحكام قبَليّة سابقة .

- ليس للخصوم إلا القبول بالحكم ... وإذا لم يقبل أحد منهم بالحكم القبَلي ، فإن قضاة الحكم القبَلي يتحاكمون وإياه عند مقطع حق أعلى درجة منهم في هذا القانون .

4- القبالة :
هي اختيار قبيلة الجاني لرجل من قرابة المجني عليه ، يضمن التزام قرابته بالحكم ، وتنفيذ بنوده ، وتبقى هذه القبالة في ورثته من بعده ، حيث :

- تختار قبيلة الجاني قبيلا من قرابة المجني عليه يضمن التزام قرابته بالحكم القبَليّ ، ويعطونه مالاً يسمى ثوب القبالة ، وسلاحاً يرمز إلى القوة ، وتعلن قرابة المجني عليه قبول قبالة قريبهم عليهم .

- تنتقل الجيرة من القبيلة المجوِّرة الى القبيل ، تحت مسمى القبالة ، وتبقى هذه القبالة في ورثته من بعده .

- إذا اعتدت قرابة المجني عليه على أحد من قرابة الجاني بعد تعيين القبيل وقبول قبالته ، فان القبيل يأخذ الثأر لقبالته من قرابة المجني عليه الذين هم قرابته ، ومن أي فرد منهم .

5- الغُرم :
هو حلف إلزام بين القرابة أو القبيلة ، بالالتزام بحمل ما يترتب على القرابة أو القبيلة من المثارات أو الديات أو معونات القبائل ، حيث :

-  تقوم قبيلة الجاني بحمل مبالغ الأحكام القبَليّة ، حيث يوزع المبلغ على أفراد القبيلة ، ثم يُدفع للمجني عليه وقرابته .

-  لا يستطيع احد من أفراد قبيلة الجاني عدم الدفع ، ومن يفكر في ذلك يتعرض للأذى المادي والمعنوي ، والتهديد بالقطع من القبيلة وعدم الدفع معه في حوادثه بما فيها جنايات الخطأ .

-  تقام المغارم في أماكن عامة للاستعانة بالقبائل الأخرى ، في حالة عجز القبيلة عن دفع المبالغ المقررة في الحكم القبَليّ ، ويعتبرون ذلك بمثابة الدَّين بين هذه القبائل .

هذا استعراض لصور هذه العادات والأحكام القبَليّة ،
وسيأتي التعليق عليها ، ونقل فتاوى العلماء فيها ،
ومناقشة الشبهات التي تثار حولها .