تمثل هذه المرحلة الحلقة الثالثة في مسار الحكم الجاهلي ، وهي البند الثالث في قانون الدماء ، وهي النتيجة الحتمية لعادة المثار وعادة الجيرة ، ولا يمكن أن تتم عادة الحكم وفض النزاع إلا بوجود عادة المثار وعادة الجيرة .
والحكم هو تحديد الحقوق وتقدير الشجاج ، وفض النزاع بين الخصوم وفق العادات والسلوم والقوانين القبَليّة ، وعلى أيدي قضاتها القبَليِّين الذين عَرفوا وأتقنوا مواد القانون القبًلي ، وعُرفوا بمسمى : الحق أو مقطع الحق أو العُرّاف .
وتتسلسل عادة الحكم وفض النزاع من خلال أعمالها التالية :
- تبدأ هذه المرحلة بعد تنازل المجني عليه عن حقه عند الشرطة ، أو التنازل عند القاضي أو عدم حضور جلسة حكم القضاء ، فهم لا يعتبرون حكم القضاء مرضيا لنفوسهم ولا منصفا لحقوقهم التي يرون أنها حق مشروع لهم، بل إنهم يستعيبون القبول بحكم القضاء ويرون أن من قبِل به قد أهان نفسه ولم يستوف حقه ، بل يُعيّر أنه قبِل في دمه بحكم القاضي !!
أما العبارات المتداوَلة في هذا الموضوع فأشهر من نار على علم ، فتسمعهم يصفون أحكامهم القَبليّة فيقولون " حكم أعوج ولا شريعة سمحة " أو " شرع الرفاقة " أو " الفرع أحسن من الشرع " أو " النار ولا العار" وغيرها من العبارات الخطيرة المعروفة .
كما ينكرون على من " يقطع القادي على ابن عمه " ويقصدون لوم وإهانة من لم يقبل التحاكم إلى عاداتهم وسلومهم إذا دُعي للتحاكم إليها !! .
- تبدأ المشاورات وتحديد مشايخ القبائل العارفين بالسلوم والقوانين القبَليّة ،الذين سيحكمون في القضية وفض النزاع ، ولا يقبل من مشايخ القبائل إلا من كان عارفا بالعادات والسلوم ، ويكون مقطع حق أو مقرع حق أو غيرها من المسميات المشهورة المعروفة .
ولا يمكن أن يقبلون في هذه الأحكام لا العلماء ، ولا القضاة ، ولا الوجهاء ، ولا غيرهم !! بحجة أنهم لا يفقهون في عادات وأعراف القبائل شيئا!! وقد يسمي بعضهم ذلك صلحا !! وهذا ليس من الصلح في شيء كما سيأتي .
- يتم تحديد موعد يحضر فيه مشايخ القبائل ومن معهم من الوجهاء والوسطاء ومعهم قبيلة الجاني ، ويكون الجميع في وضع تذلّل وامتهان ، من وقوف في الشمس ، وربط للأعناق ، وحبو على الأرض ، وعقل للأرجل، وغيرها من صور التذلل الذي لا يجوز إلا لله U !!
وقد يقوم شخص له شأن وقدر عند المجني عليه و قرابته ، فيربط نفسه في ساحة الحكم وفي الشمس ولا يفك رباطه إلا قرابة المجني عليه بعد تلبية طلبه بقبولهم للحكم !! وغيرها من الصور التي تعزز قيم الكبر والظلم في نفوس أصحابها ، وهي صور تنفر منها النفوس السليمة المؤمنة ، وهي صور تنافي حقيقة الصلح الشرعي جملة وتفصيلا ، كما سيأتي .
- ليس للخصوم إلا القبول بالحكم ، وقد يطلب مشايخ القبائل قبيلا من فريقي الخصومة بقبول حكمهم ، ومن لم يقبل بحكمهم فإنهم يتحاكمون وإياه عند مقطع حق أعلى درجة منهم في معرفة القوانين والسلوم !!
- تبدأ المداولات وتدلي قبيلة المجني عليه بتظلمها وإملاء مطالبها ، وتطلب رد اعتبارها بالصورة التي تريد سواء كان ذلك موافقا للشريعة أم لا ، وتستمر المداولات ويدلي كل بما لديه في ظل الأعراف والاعتبارات القبَليّة المعروفة بينهم مما يرون انها حقوق مستحقة لابد من استيفائها .
- يتخلل هذه المداولات طلب قرابة المجني عليه أيمان بعض أفراد قبيلة الجاني ، وتسمى دين الخمسة أو العشرة أو الخمسين ، فيحلفون الأيمان " أنهم ما أهروا ولا أغروا ولا تمالوا ولا رضوا " بهذه الجناية !! وهذا الفعل ليس من الصلح في شيء ، بل هو حكم قبَليّ لا شك فيه .
- يبدأ بعدها مشايخ القبائل بمداولات الحكم والمشاورات الخاصة بينهم ، فينظرون في القضية ... ثم يحكمون بأحكام وأيمان ومبالغ مالية، وفق سلومهم وعاداتهم ، وما فيها من تقديرات ، وأحكام قبَليّة سابقة .
- وأخيرا ... بعد الحكم وفض النزاع ، فإن من لوازم هذا الحكم القبَليّ ، أن يتحاشى الجاني خصمه !! فلا يجلس الجاني في مجلس فيه خصمه ، ولا يدخل سوقا هو فيه !! تحاشيا للفتنة بزعمهم !! وهذا في حقيقته زرع للفرقة والفتنة والتنافر الذي نهتنا عنها شرائع الإسلام العظيمة.
فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في الأحكام القبليّة :
صدرت فتوى لجنة الإفتاء رقم 23211 في 19/2/1426هـ حول هذه العادات والأحكام القبلية .
وكان السؤال :
" ينتشر في المنطقة الجنوبية عادات وأعراف قبلية يتحاكم إليها الناس ، حيث يتحاكمون إلى بعض العارفين بالأحكام القبلية ويسمى ( المقرع ) ( الحق ) ( عراف القبائل ) ، ويأخذ عليهم قبل الحكم ضمانات على أن يقبلوا بحكمه ، ثم يسمع منهم ويحلّفهم الأيمان ويسمع الشهود ، ويحكم بعد ذلك ، وإن لم يقبلوا بحكمه أصبح خصما لمن لم يقبل عند ( مقرع حق ) أعلى منه درجة ، علما أن الذهاب لهؤلاء المحكمين برضا الطرفين أو بطلب طرف ويُلزم الطرف الآخر اجتماعيا بقبول التحاكم ، ومما ينبغي الإشارة إليه أن هؤلاء الطرفين لا يُقرّون بأن ما يقومون به حكم ، وإنما يرون أنه صلح يقطع كثيرا من النزاعات ويحفظ من شرور كثيرة .
ويتخلل هذه الأحكام عادات وأعراف قبلية مثل المثارات ( مثار العاني ومثار الخوي ومثار الجار )، ودين الخمسة أو العشرة أو يزيد ( يضعون دائرة يُدخلون فيها خمسة أو عشرة أو أكثر من أقارب المعتدي فيحلفون أنهم ما أهروا ولا أغروا ولا رضوا )، والغرم ( وهو إلزام الجاني لقبيلته بالدفع والغرم معه ) "
فكان جواب اللجنة كما يلي :
" إن ما ذكر من الحكم والتحاكم إلى الأحكام العرفية والمبادئ القبَليّة ، كالثارات ودين الخمسة أو العشرة والغرم وغيرها ، كل هذه ليست أحكاما شرعية ، وإنما هي من الأحكام القبَليّة التي لا يجوز الحكم بها بين الناس ، ويحرم على المسلمين التحاكم إليها ، لأنها من التحاكم إلى الطاغوت الذي نهينا عن التحاكم إليه .
وقد أمرنا الله بالكفر به في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ) النساء 60 .
ولا يحل لمشايخ القبائل ولا لغيرهم الحكم بين الناس بما تمليه الأعراف والمبادئ القبَليّة السابق ذكرها ، بل الواجب عليهم أن يتحاكموا إلى الشريعة الإسلامية امتثالا لأمر الله U في قوله تعالى : ( وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) المائدة 49 ، وقوله تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) المائدة 44 ، وقوله تعالى : (ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ) المائدة 45، وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) المائدة 47 .
وقوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا ) النساء 65 ، والواجب على الجميع التحاكم إلى شرع الله المطهر ، والله ولي التوفيق " أ . هـ .
===============
فتوى العلامة ابن باز رحمه الله في التفريق بيـن الحكم القبلي والصلح الشرعي :
فتوى العلامة ابن جبرين رحمه الله في التفريق بيـن الحكم القبلي والصلح الشرعي :
السؤال :
من يتحاكم إلى القوانين العرفية، والقوانين القبلية ... هل حققوا معنى لا إله إلا الله ؟
الجواب :
أما تحكيم القوانين والأعراف القبلية فهذا منكر لا يجوز ، والواجب تحكيم شرع الله، كما قال سبحانه : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًۭا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًۭا " النساء 65
أما الصلح فلا بأس به من غير إلزام ... فإذا أصلح شيخ القبيلة ، أو أحد أفراد القبيلة وأعيانها بين متخاصمين صلحا لا يخالف شرع الله ، بأن أشاروا على هذا بأن يسقط بعض حقه ، وهذا بأن يتسامح عن بعض حقه ، وهذا بأن يعفو ... فلا بأس بهذا .
أما أن يلزموهم بقوانين ترجع إلى أسلافهم وآبائهم فهذا لا يجوز ، أما الصلح بالتراضي على أن هذا يسمح عن بعض حقه ، أو يسمح عن سب أخيه ، أو ما أشبه ذلك ... فهذا لا بأس به ، لقول الله تعالى : " والصلح خير " النساء ١٢٨، ولقول النبي r : " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراما " رواه أبو داود (3594 ) والترمذي ( 1352 ) وهو حديث صحيح ، انظر مجموع فتاوى ابن باز 4/ 29
========
فتوى العلامة ابن جبرين رحمه الله في التفريق بيـن الحكم القبلي والصلح الشرعي :
سئل الشيخ عبد الله ابن جبرين رحمه الله في برنامج الجواب الكافي بقناة المجد يوم الجمعة الموافق 28/5/1429هـ عن العادات والأحكام القبلية ، وهل هي من الصلح الشرعي ؟
فكان السؤال :
" عندنا في المنطقة تحدث الاعتداءات بين الناس ، وتراق فيها الدماء ، فيذهب أهل المجني عليه إلى الشرطة أو المحكمة ويتنازلون عن القضية هناك ، ثم يتجهون إلى مشايخ وعراف القبائل ، فيصلحون بينهم بمبالغ معينة تدفعها قبيلة الجاني ، ويضعون قبيلا في القضية يضمن قبول الصلح وتنفيذه ، ويقولون هذا صلح !
وهناك فتاوى لبعض العلماء أن هذا من الحكم بغير ما أنزل الله ، وبعض الناس يذكر أن الشيخ ابن جبرين يمشي في هذه الأصلاح القبَليّة ويؤيدها ويرى جوازها ، وهذا موضوع على مستوى منطقة ، ونريد من الشيخ تبيين الأمر في هذا "
فأجاب الشيخ رحمه الله بما يلي :
" نحن نفتي بجوازه إذا كان على وجه الصلح وقطع النزاع والخصومات ، وذلك لان الصلح جائز ، قال النبي r : " الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا " ...
فإذا كان هذا الواسطة يسعى في الصلح بينهم كما فعل أبو شريح في قومه ، أنهم إذا اختلفوا في شيء أتوا إليه فحكم بينهم ورضي كلا الفريقين ، فقال النبي r : " ما أحسن هذا " ...
ولكن عند الأعراب وكثير من البوادي والقبائل شيء غير هذا !! وهو أنهم يجعلون عادات يمشون عليها ، وكأن تلك العادات أدلة شرعية يحكم بها رئيس العشيرة ورئيس القبيلة ، ويجعل ذلك إلزاما ، أي حكما ملزما به بحيث أن الذي يحكم عليه يُلزمه أن يخضع لذلك فيحكم على هذا بذبائح أو يحكم عليه بمال يغرمه للطرف الآخر ، ويرى أن هذا أقدم من حكم الشرع ، فنحن نقول : في مثل هذه الأشياء يرجع فيها إلى المحاكم ، وحكم القضاة أولى بأن يقدم .
أما هؤلاء الرؤساء فإنهم قد يحكمون بأشياء باهظة رفيعة ، كأن يحكمون في كلمة أو صفعة يسيرة أو نحو ذلك ، ويجعلون فيها مائة ألف أو أكثر أو اقل ، فيلزمون بذلك هذه القبيلة ويكلفونها فوق طاقتها ، ولو ذهبوا إلى المحكمة ما حكمت ولا بمائة أو مائتين .
فمثل هذا نرى أنه من حكم الطواغيت ... ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت كما ذكر ذلك العلماء في تعريف الطواغيت ، أنه ما تجاوز به العبد حده ، ومن ذلك الحكم بهذه الأشياء أو القوانين الوضعية أو ما أشبه ذلك " أ. هـ .
شبهة : أن القضاة يقرّون هذه الأصلاح ويقبلونها :
يذكر البعض أنهم إذا أنهوا حكمهم القبَليّ يذهبون الى القاضي فيصادق على هذا الصلح ، ويكمل إجراءاته من دون اعتراض منه !!
والحقيقة أن هذا الكلام فيه إجمال مبني على الأصل في جواز الصلح بين المسلمين ... ولذلك فلا يَسأل القضاة عن تفاصيل هذا الحكم !! جريا على الأصل في الصلح وجوازه ...
أما عند إطلاع القضاة على تفاصيل هذا الحكم ومعرفة حقيقته ، فإنهم ينكرونه ، ويرفضون التصديق عليه .
وإن المؤسف أنهم لا يُطلعون القضاة على تفاصيل هذا الحكم القَبليّ !! ولا يثبتون هذا التفاصيل في وثائق مكتوبة تُقدّم إلى الجهات المختصة ، خوفا من رفضها ومنعها .
شبهة : جواز ما يحكمون به من الأيمان :
يحتج البعض منهم بجواز الحلف في أحكامهم مقارنة بأحكام الشريعة في مسألة القسامة !! كما في حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه ، يوم قُتل عبد الله بن سهل رضي الله عنه في أرض خيبر ، ولم يُعرف قاتله ، فذهبوا لرسول الله r فذكروا له مقتل عبدالله بن سهل ، فقال لهم : أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم ( أو قاتلكم ) ؟ قالوا : وكيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فلما رأى ذلك رسول الله r أعطى عقله .
فدل هذا على أنه لو قُتل قتيل لا يُعرف قاتله ، ودارت الشبهة على قوم بعينهم ، فعندها يستحلف القاضي خمسين رجلا من أهل الحي أو القبيلة المتّهمة ، أما إذا لم توجد شبهة فلا يُستحلف أحد ولو طالب بذلك أهل القتيل ...
فهذا حكم شرعي ثابت بالسنّة الصحيحة ، وليس صورة من صور الإصلاح الشرعي !! علما أن القضاء لا يستجيز هذا الحلف في أي قضية قَتْل عُرف فيها القاتل ، فضلا عن العمل به في جنايات ما دون القتل سواء عُرف الجاني أم لم يُعرف ... وهذا مما يؤكد حقيقة أن العمل بهذه اليمين هو من باب الحكم القبَليّ ... لا من باب الصلح الشرعي .
شبهة : لو لم يُحكم بين الناس بهذه العادات والأعراف لتفاسدوا وتقاتلوا :
من الشبه المتوارثة أنه لو لم يتم الحكم بين الناس بهذه الأحكام لتفاسدوا وتقاتلوا ، ولأصبحت أنفسهم ودماؤهم في خطر ، وعرضة لإزهاقها وإراقتها !!
لكن بطلان هذه الحجة بيّن واضح ، من خلال الوجوه التالية :
1. لم يجعل الله U على خلقه أوصياء منهم يتخوّضون فيهم بآرائهم وأهوائهم !! بل لما خلق الله الخلق أرسل لهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، فكفل لهم حقوقهم في الدنيا والآخرة ، ولم يتركهم هملا بلا شريعة تحفظ حقوقهم وتفصل بينهم .
2. هذه الشبهة هي من تخويف الشيطان للناس حتى يكفروا بربهم ، ويعرضوا عن شريعته ... ولما خوّف الناسُ نبيَّ الله r بمن هم من دون الله ، أمره الله U أن يقو ل : ( حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون )الزمر 38 ، ولما خوّف الناسُ المؤمنين : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم !! فزادهم ذلك إيمانا : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل ) آل عمران 173 ، فازداد نبي الله r والمؤمنون بذلك التخويف إيمانا وثقة بالله U ، فكان الله U هو حسبهم وكافيهم ووكيلهم وكفى بالله حسيبا وكافيا ووكيلا .
3. أن الفساد الواقع بين الناس من قتل النفوس ونهب الأموال إنما هو بسبب تضييع أوامر الله وارتكاب نواهيه قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) الروم 41 ، فلما تحاكم الناس إلى غير شرع الله سلط الله بعضهم على بعض .
4. إذا كان التحاكم إلى الطاغوت كفراً ، وأن الكفر أكبر من القتل، كما قال تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل ) البقرة 217 ، فلو اقتتلت البادية والحاضرة حتى يهلكوا جميعا لكان ذلك أهون من أن ينصبوا طاغوتا يتحاكمون إليه بخلاف شريعة الإسلام ، علما أن تحكيم الشرع فيه كل الخير والحفاظ على النفوس .
5. لو اضطرك احد فخيّرك بين أن تتحاكم إلى الطاغوت أو أن تبذل دنياك كلها ، لوجب عليك أن تبذل دنياك كلها ، ولا تكفر بالله بالتحاكم إلى الطاغوت ومن أجل دنيا !!
===============
شبهة : الربط بين العفو في الرقاب وبين العادات والأحكام القبليّة :
يظن بعض الناس أن من ينكر عادات الدماء ، أنه ينكر الدخول في طلب العفو والشفاعة في القاتل أن يُعفى عنه !! ويعتقد طلب عفو أهل المقتول عن القاتل جزء من هذه العادات والأحكام القبَليّة !!
والحقيقة أن هذا خطأ وخلط بين صورتين ، بيانها كما يلي :
1- الشفاعة وطلب العفو عن القاتل أمر محمود في مجمله ، ويُرجى للساعي فيه الأجر الجزيل من الله U ، ويجوز رجاء أهل القتيل وتقديم المغريات لهم ، ويجوز دفع المال وإن طال ، طمعا في حصول العفو ، فقد دفع ريحانتي رسول الله r الحسن والحسين رضي الله عنهما سبع ديات فدية لهدبة بن خشرم لما قتل رجلا .
وإن بعض العلماء يشترط في جواز هذا الصلح أن يترتب عليه توبة القاتل وصلاحه .
2-أما ربط العفو عن القاتل بالعادات والأحكام القبَليّة ، وطلب العفو من أهل القتيل بالإقبال بالناس عليهم ، وممارسة الضغوط الاجتماعية عليهم ، ثم تطبيق العادات والأحكام القبَليّة ، بعد عفو أهل القتيل عن القاتل ، من إقبال بالناس ، وإنهاء الجيرة ، وطلب القبيل ، وتغريم قبيلة القاتل بالفدية ، وإقامة المغارم لذلك ، فلا شك أن هذا أمر محرّم ، وفق أحكام الشريعة وفتاوى العلماء السابقة في العادات والأحكام القبَليّة .
وإن العفو قد تقرر هنا بحكم شرعي عند القضاء !! فلماذا الاستدراك على حكم الله U بهذه العادات الجاهلية والأحكام القبَليّة ؟!!
===============
شبهة : أن بعض العلماء وطلبة العلم يكفّر مشايخ وأعيان القبائل :
يذكر البعض أن الشيخ الفلاني أو طالب العلم الفلاني يكفّر مشايخ وأعيان القبائل !!
وهذا الإدّعاء لا يصدر إلا من محرومٍ جاهلٍ بمنهج أهل السنة في مسائل الكفر ومن يستحقه ، أو من مغرضٍ مشوشٍ لا يريد أن يفهم الناس حقيقة هذه الأحكام الجاهلية .
ومسألة الكفر والتكفير عند أهل السنة تقوم على أصول متينة لا يجهلها مسلم ، وتتلخص هذه الأصول فيما يلي :
1- أن الذي حكم بكفر العمل هو الله ورسوله ، فمن كفّره الله ورسوله لعمل عَمِله فهو كافر بهذا العمل ، فمن ترك الصلاة فقد كفر ، ومن حكم بغير ما أنزل الله فقد كفر ، وهذا هو ما دلت عليه نصوص الشريعة من القران و السنّة .
2- لا يُكَفّر الشخص بعينه حتى يستوفي شروط هذا التكفير وتنتفي عنه موانعه ، فمن عمل بعمل كفّر اللهُ ورسولُه عامِلَه ، فإنه يُستدعَى إلى الجهة القضائية المخوّلة بهذا الأمر ، ويُنصح ويُحذّر ويُعلّم ، وتقام عليه الحجة ويستتاب ، فإن أبى وأصر فقد استحق الحكم عليه بالكفر ، ومن ثم إقامة حد الردّة في حقه .
3- إذا حَكَم اللهُ ورسولُه على عمل بالكفر ، فإن المؤمن ترتعد فرائصه من ذلك ، ويفر من هذا العمل فرار الخائف من الأسد ...
أما أن يبقى على هذا العمل ولا يريد أن ينكر عليه أحد فهو على خطر عظيم في دينه ، وهو على خطر عظيم عند لقاء ربه إن لم يتدارك نفسه بالتوبة الى الله U ، نسأل الله العافية والسلامة ، ونعوذ به من الحرمان .
والواجب على المسلم أن يفرح إذا عرف من الحق شيئا فاتبعه وعضّ عليه بالنواجذ ، وأن يفرح إذا عرف الباطل فولّى منه هاربا إلى أبعد مكان ... وهذه حال المؤمنين منذ أن بزغ نجم الرسالة المحمدية .
===============
وقفة هامة :
الصلح الشرعي والحكم القبليّ ، والفرق بينهما :
الصلح من المحاسن العظيمة في شريعة الإسلام ... وقد تضافرت نصوص الشريعة في الحث على الصلح بين الناس والترغيب فيه ، فالإصلاح بين الناس من العبادات الجليلة ... كما أن من مقاصد الشريعة تحقيق المودة والألفة بين الناس.
وقد بيّن الله U فضل الإصلاح بين الناس فقال تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) النساء ١١٤
كما بيّنت الآية عظيم الأجر للمصلح إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله .
كما أخبر المصطفى r أن إصلاح ذات البين أعلى درجة من الصلاة والصيام والصدقة ، فقال r : " ألا أدلّكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ " قالوا: بلى يا رسول الله ، قال : " إصلاح ذات البين ؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول : إنها تحلق الشعر ، ولكنها تحلق الدين "
وقد أصلح النبي r بين طائفتين من أصحابه ... فإن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأُخبر رسول الله r بذلك ، فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم )
وإن من أعظم الصلح : الصلح بين المسلمين المتقاتلين ، لأن إراقة الدماء بين المسلمين من أعظم الكبائر ومما يفرق الصفوف أشدَّ تفريق ، ولذلك قال الله تعالى ( وإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) الحجرات ٩ ، فهذا أمرٌ بالصلح .
أما الأحكام القبَليّة فعلى العكس تماما من الصلح الشرعي ، فإنها سبب رئيس في إعراض الناس عن التحاكم إلى شريعة الإسلام ، وهي علامة على قلة الديانة والإيمان بالله U ، وهي مدعاة للعصبية القبلية وانتشار الفخر والمكابرة بين الناس ، وهي حالقة للدين وزارعة للحقد والبغضاء بين الناس ، كما أنها مهلكة للناس بجرها لهم إلى الطمع في الدنيا والرياسة والشرف .
وحيث إن كثيرا من مشايخ وأعيان القبائل يردّدون أن ما يقومون به صلح شرعي جائز، وأنه ليس حكما جاهليا بغير ما أنزل الله ، فقد بينت الفتوى السابقة حقيقة هذا الادعاء وأجابت عنه .
ولبيان الموضوع وإيضاحه ، فهذه فروق جوهرية بين الصلح الشرعي والحكم القبَليّ ، يتبيّن بها حقيقة كل منهما ، تتلخص فيما يلي :
1. الصلح الشرعي يكون خالصا لله U كما قال تعالى ( ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) النساء ١١٤،
فلا يراد به شرف ولا جاه ولا مكانة .
أما الحكم القبَليّ فإنما يراد به الشرف والجاه ومطامع الحياة الدنيا .
2. الصلح الشرعي لا يكون فيه مخالفات لأحكام شرعية أخرى ، قال r : " الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلّ حراما ، أو حرّم حلالا " .
أما الحكم القبَليّ فهو مليء بالمخالفات الشرعية كما سيأتي .
3. الصلح الشرعي مبني على العدل وحفظ الحقوق ، فليس فيه حيف أو ظلم أو جور .
أما الحكم القبَليّ فقائم على الجور والحيف ، والمبالغات ، وتحميل الناس بأحمال مالية تثقل كاهل أهلها ، وهو أمر ظاهر للعيان .
4. الصلح الشرعي مبني على تحقيق مقاصد الشريعة من الألفة والمحبة والتسامح والتصافي .
أما الحكم القبَليّ فيزرع التنافر والتباعد والأحقاد بين الناس !! فمن لوازمه الملزمة أن الجاني يتحاشى مقابلة خصمه !! فلا يجلس في مجلس فيه خصمه ، ولا يدخل سوقا هو فيه !!
5. الصلح الشرعي يتم على يد أدنى المسلمين ، ممن يعرف أصول الشريعة ، ويتصف بالعقل والحكمة في معالجة الأمور .
بينما الحكم القبَليّ لا يقبل إلا من عارف بعادات وأعراف القبائل ممن يسمونهم مقاطع الحقوق أو عراف القبائل أو غيرها من المسميات المعروفة لديهم ، فلا يمكن أن يتم الحكم القبَليّ إلا بحضور فلان أو فلان !! ولا يمكن أن يتم الحكم القبَليّ على يد أحد من القضاة أو العلماء أو الوجهاء أو غيرهم.
6. ينطلق الصلح الشرعي من نصوص الكتاب والسنة ، بما يحقق التراضي والتصافي بين الناس .
بينما الحكم القبَليّ له مستمداته التأصيلية ، من عادات وسلوم ، وتقديرات موروثة، وأحكام قبلية سابقة يقاس عليها ، وغيرها مما لا يجهله احد .
7. الصلح الشرعي يتم في أي مكان ، وبأي صورة ، فلا يشترط فيه هيئة ولا طريقة معينة .
بينما الحكم القبليّ له هيئات وصور خاصة يمتثلها الخصوم ، من وقوف في الشمس ، وربط للأعناق ، وحبو على الأرض ، وعقلٍ للأرجل ، وغيرها من صور التذلل والامتهان التي لا تجوز الا لله تعالى .