أهمية الموضوع ... وعلاقته بالتوحيد ...





          إن موضوع العادات والأحكام القبَليّة في الدماء أمر بالغ الأهمية ... فهو أمر واقع في حياة الناس ، ومتعمق في كثير من قضاياهم المهمة ، وعلاقته بالتوحيد وبالشريعة الإسلامية أمر ظاهر لمن نظر فيه وتأمّله .

وسيتبيّن ذلك من خلال العناصر المهمة التالية :

(1)  إن توحيدنا في خطر :

التوحيد هو أعظم المقاصد وأجلّ الغايات ، والتوحيد هو الأصل الذي بنيت عليه الملة الحنيفية ، وهو الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس ، وبالتوحيد أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار

والتوحيد مناط السعادة والشقاوة  ، وبالتوحيد دخول الجنة ، وبه حصول الأمن والهداية في الدنيا والآخرة ، وبه تكفير السيئات ، وبه حصول ولاية رب العالمين ، وبه حصول الحياة الطيبة ، وبه استغفار الملائكة للمؤمنين الموحدين ... وغير ذلك كثير وكثير من ثمار وفضائل التوحيد ...

قال ابن القيم رحمه الله التوحيد أشرف شيء وأنزهه ، وأنظفه وأصفاه ، وأدنى شيء يخدُشه ويدنّسه ويؤثر فيه، فهو كأبيضِ ثوبٍ يكون، يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً، أدنى شيءٍ يؤثر فيها  .

وهذا مما يؤكد على أهمية التوحيد ، وضرورة حمايته من كل ما يضرّ به ، وأن يكون هذا التوحيد أغلى عندنا من شرفنا وجاهنا ومالنا ، بل وأغلى من أنفسنا التي بين جوانحنا ...

وقد سطر التاريخ لصحابة رسول الله r أروع ما يكون في تحقيق التوحيد والتمسك به ، ورفض المساومات عليه ، فهذا بلال رضي الله عنه يطلب منه المشركون غير التوحيد ، فيكون جوابه تحت وطأة العذاب : أحد ... أحد !! 

ولله درّ ذلك الرجل ممن كان قبلنا ... الذي فدى توحيدَه بنفسه يوم ساومه عليه قوم لا خلاق لهم !!  ففي الأثر عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : " دخل رجل الجنة في ذباب ، و دخل رجل النار في ذباب . قالوا: وكيف ذلك ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم  لا يجوزه أحد حتى يقرِّب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما : قرّب شيئا ، قال : ليس عندي شيء ، فقالوا له : قرّب ولو ذباباً ،  فقرّب ذبابا ، فخلوا سبيله ، قال : فدخل النار، وقالوا للآخر :  قرّب ولو ذباباً ، فقال : ما كنت لأقرّب لأحدِ شيئاً دون الله U ، فضربوا عنقه ، قال : فدخل الجنة .

ومن الملاحظ عموما ... تساهل البعض في مسائل التوحيد !! وما ذلك إلا لقلة الفقه بأهمية التوحيد وخطورة الإخلال به ...  
وفي القصة المشهورة عن الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله مع طلابه أبلغ إشارة الى ذلك ...  فقد كان الشيخ يركز في دروسه على كتاب التوحيد .. .فقال له طلبته : يا شيخ نريد أن تغير لنا الدرس إلى بعض المسائل الأخرى ، فقال لهم: سننظر في ذلك إن شاء الله .
ومن الغد جلس الشيخ لطلابه وقال لهم : سمعنا أنه في إحدى القرى المجاورة قام رجل بذبح ديك عند عتبة بابه الجديد ، وقد أرسلت من يتثبت لي من الأمر ، فقال الطلبة : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ومضوا في طريقهم .

ثم جلس الشيخ من الغد لطلابه وقال لهم : لقد وجدنا الأمر بخلاف ما ذُكر ، فالرجل لم يذبح ديكا ، ولكنه وقع على أمه ( زنا بها ) ، فثار الطلبة وانفعلوا ، وقالوا : لا بد من أن ننكر هذا الأمر كيف يكون ذلك نعوذ بالله من الخذلان ، فقال لهم الشيخ : عجيب أمركم !! تثورون من أجل كبيرة من الكبائر ، ولا تثورون لأمر الشرك بالله !! هات كتاب التوحيد نقرأ منه .

وقد كان كتاب التوحيد للشيخ رحمه الله ، شامة الكتب ، فقد اعتنى فيه بأهم أمر في حياة المسلمين ، فإن أمر التوحيد فوق كل اعتبار ، وإن كل معصية دونه بكثير .

إن توحيدنا في خطر ... إذا اختل شيء من معاني التوحيد العظيمة ...  

فإذا أصبح العبد المسكين يبحث في حياته عن وجوده وكرامته وعزته في غير التوحيد وشرائعه !! فإنها من أعظم الانحراف ، وأقسى العقوبات , وأشد صور الحرمان !!

وإن من تلك الصور المحزنة ما يدور بين أقوام ، من السعي في استيفاء حقوقهم وحماية دمائهم ، من خلال عادات قديمة قِدم الجاهلية ، وكأن شريعة الإسلام قد خلت مما يفي بتلك الحقوق ويحمي تلك الدماء !!

فتجدهم قد أعرضوا عن حكم الله U في حرمة دماء المسلمين  !! وتمسّكوا بحكم عادة المثار ، لاستيفاء حقوقهم وحماية دمائهم !!

وتجدهم قد أعرضوا عن حكم الله U  ، فتجاهلوا لعنَ الله U لمن منع معتديا ظالما !! وتمسّكوا بعادة الجيرة الجاهلية التي تمنع الظالم وتحميه ... وتمنع قراباته تأكيداً لعادة المثار التي ألزمتهم بذلك !!

وتجدهم قد انصرفت نفوسهم عن أحكام الشريعة العادلة ، وعن مجالس الصلح الشرعي !!  واتجهوا إلى تحكيم عادات وسلوم الآباء والأجداد على أيدي فريق منهم تميزوا بمعرفة تلك العادات دون غيرهم ، فلا يقبلون سواهم ، ولا يشعرون باستيفاء حقوقهم بدونهم !!

وتجدهم قد رفضت نفوسهم مبدأ الشريعة في تحمّل كل نفس وزرها ، وتخفيف الشريعة على الناس آثار أخطائهم وتسهيل معالجتها !! فألزموا الناس ظلما وعدوانا بتلك العادات بتكليف قبلاء يتعهدون  بالتزام هذه الأحكام !!

وتجدهم قد انتقصت آراؤهم نبراس الشريعة العادل في أحكام العاقلة وما تحمله !! وألزموا أهلهم وقراباتهم بالخضوع لعادة الغرم ... وتحمّل أفعال قراباتهم التي وقعوا فيها عمدا منهم وبإرادتهم  ، ولأسباب لا تستحق ذلك التهور والاندفاع .

فأصبحت هذه العادات في قضايا الدماء بينهم ، تنظيما تسير حياتهم على منهاجه ، ووفق ترتيباته !!  مع مخالفاته الصريحة لشرائع الإسلام العادلة !!
وقد قرر العلماء أن وضع قانون مخالف لشرع الله والتزامه كفر أكبر يخرج من ملة الإسلام ... والقوانين الوضعية ومثلها سلوم القبائل والبادية التي يتوارثونها ، ولا يرضون إلا بأحكامها وهي مخالفة للشرع ، واضح منها المعاندة التامة للشريعة الإسلامية ولمن أنزلها .
------------ 

(2)  العادات الجاهلية تحت قدميّ  النبي  r :

كم نحن بأمس الحاجة إلى حسن الاقتداء بإمام الأمّة محمد r  في مواجهة هذه العادات الجاهلية ... ولن نجد خيراً  ولا أهدى من محمد r نقتفي أثره .

ولو تتبعت الأحاديث الشريفة التي ظهر فيها إشفاقه r على أمته ، وحرصه على نجاتها لطال بك المقام ولما حصرت من ذلك إلا النزر اليسير ...

فلقد وقف النبي r في حجة الوداع في الناس خطيبا ، فقال في خطبته : " ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه " 

    فكان هذا الفعل منه r سنّة تُحتذى ، ونبراسا يُقتدى في التعامل مع العادات الجاهلية ، وأن تكون تحت الأقدام ... لا فوق الرؤوس !!

وإن في ذلك أعظم فلاح ، وأعدل منهاج ، وفيه قيام التوحيد وسلامته ، وفيه النجاة في الدنيا والآخرة .
 =========== 

    (3)  خطورة العادات والأحكام القبَليّة في الدماء :

إن الناظر إلى هذه العادات والأحكام القبَليّة في الدماء ... بعين البصيرة ، وبروح التجرد ، ومن خلال نصوص الشريعة ، وكلام العلماء وفتاويهم ، وتوجيهات الجهات الرسمية ، وتقارير المختصين في هذا الشأن ، سيرى جليّا أنها قد تضمنت مخاطر عظيمة : عقدية ، وشرعية ، وأمنية ،  واجتماعية ، واقتصادية ...  ومن تلك المخاطر ما يلي :
1-مخاطر عقدية :
إن تلك العادات طعنة في حقيقة التوحيد ، وأنها رفض لأحكام الشريعة ، وتمرّد عليها ، وعدم رضا وقبول لها ، وأنها إبطال لأسباب التوكل على الله U ، وأنها زرعت الشبهات بين الناس !! فلا يتصورون تركها والإقلاع عنها !! فيرون أنها حق أبلج لا سلامة إلا بها، وأنها تدفع الفتنة !! والحقيقة أن هذا الاعتقاد من تلبيس الشيطان ، ومن إتباع الأهواء ، ومن الجهل بالشريعة !!!

2-مخاطر شرعية :
أنها عادات فخر واعتزاز ، فلا يشعر المرء منهم بقيمته واعتزازه في ظل أحكام الشريعة مثل ما يشعر بذلك في ظل هذه العادات !!  فقد زيّن لهم الشيطان حياة فخر وظلم واعتداء !!  ثم شعروا بعجز الشريعة عن حفظ ذلك الفخر والظلم والاعتداء ، فاخترعوا لهم قوانين تحقق لهم ذلك ... وأنّى لهم ذلك !!

3-مخاطر أمنية :
أنها تشجيع للجريمة والاعتداء !! فإن فيها حماية الجاني ، وفيها حمل جنايته !! وقد وصفت لأحد علمائنا الكرام صورة هذه العادات ، فسألني متعجبا :  يعني لو ضربت شخصا ، فهناك من يمنعني ، وهناك من يدفع عني ، ويحمل عني ؟!  فقلت له : نعم ،   فقال : أنتم تشجعون الجريمة !!

 4-مخاطر اجتماعية :
أنها قد جرّت على أهلها من الويلات الشيء الكثير ... فقد جعلت دماءهم وشرفهم ( ويقصدون بالشرف علو المكانة والجاه ) أعظم عندهم من توحيدهم لله U ، وأعلى من قبولهم لشريعته ، مما أورثهم من الكبر والفخر والظلم ما أفسد عليهم حياتهم!! فزرعت الشكوك في أركان حياتهم ، وأوجبت عليهم المبالغة في الحذر في كل زوايا هذه الحياة !! واختفت مع الأسف أخوة الإيمان بينهم ، وفقدوا حياة الطمأنينة والثقة وحسن الظن فيما بينهم .

5-مخاطر اقتصادية :
فقد أنهكت قواهم ، وأثقلت كواهلهم ... فدفعوا أموالهم الطائلة للوفاء بحمالات تلك العادات ... مما جعل غالبهم في حالة عجز وفقر ، بينما خفف الله U عنهم بالشريعة وأحكامها ، ما يبقيهم في حالة من اليسر والتوازن والرضا .

وان مما تعجب له ... هروب الناس مما يضر بمصالحهم ... ونفورهم مما يهدد حياتهم وحياة أهليهم وذويهم ... واستشاطتهم غضبا إذا أريقت دماؤهم أو أهينت كرامتهم ... لكنك تجدهم لا يحركون ساكنا إذا انتقض توحيدهم !! فجهلوا وما علموا أن سلامة أنفسهم ، ودمائهم ، وأعراضهم ، وأموالهم ، إنما هي بسلامة توحيدهم وحسن ديانتهم لله U .

 =========== 

(4)  العادات القبَليّة حكم بغير ما أنزل الله ، وعلمانية محضة :

إن حكم العادات القبليّة وحقيقتها في كلام العلماء وفتاويهم أمرٌ واضحٌ وجلي، وهذا نقل لأئمةٍ أعلامٍ في ذلك:
(1)  كلام ابن إبراهيم رحمه الله في رسالته "تحكيم القوانين" ص6: 
"كفر الاعتقاد أنواع... ومنه: السادس: ما يحكُم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله".

(2)  كلام ابن باز رحمه الله في رسالته "وجوب تحكيم شرع الله، ونبذ ما خالفه" ص4: 
"فلا يتم إيمان العبد إلا إذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شئونه، في الأنفس والأموال والأعراض، وإلا كان عابدا لغيره، كما قال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" النحل 36
فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه، فهو العابد له، ومن خضع لغيره، وتحاكم إلى غير شرعه، فقد عبد الطاغوت، وانقاد له، كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا" النساء 60

(3)  كلام د. محمد بن سعيد القحطاني، أستاذ العقيدة،في رسالته "عادات وألفاظ تخالف دين الله الحق" ص22:
"وانك لتعجب من أناس يصلّون ويصومون، ويقرؤون القرآن ويسمعون الخطب والمواعظ، ولكنهم لا يفهمون من الدين إلا هذا!!
وأما الفصل بين الناس وتنظيم الحياة على منهاج الشرع الرباني، فهذا ما لا يفهمونه... وإن فهموه لم يقبلوه... وما هي – والله – إلا علمانية محضة، لكنها لبست ثوبا قبَليّا عشائريا".


وأخيراً ... فإن من أعظم نعم الله على العبد أن يزيل الله على يده ما في بلده من البدع والمنكرات ... ومن أهم شروط التوفيق لذلك : إخلاص النية لله U ، وألا يخشى في ذلك لومة لائم ، وأن يكون إنكاره بحكمة وحجة بيّنة تحققان الغرض ، وأن تكون عزيمته صادقة ، وألّا يحتقر نفسه...

ومن أراد أن يكون له سهم في زوال هذا المنكر الخطير فليكن منه على بال ... أن الله أزال بسبب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كثيرا من مظاهر الشرك في الجزيرة العربية وغيرها ، مع أن وجوب إزالتها كان لا يخفى على كثير من علماء عصره بل وبعض شيوخه ، ولكنهم ما استطاعوا صنع ما صنعه رحمه الله، لعدم توفر ما سبق من شروط إزالة تلك المنكرات الشركية ، بل إنه لما ناقش أحد شيوخه فيها تعذر بعدم القدرة وبقلّة الجدوى من الإنكار .