ثانيا : عادة الجيرة ( ردّية الشان ) ...


           هي الحلقة الثانية في مسلسل الأحكام القبَليّة ... وهي البند الثاني في قانون الدماء ، وهي ثمرة عادة المثار ، وأثر من آثار تعظيمها .

والجيرة هي توفير الأمن والحماية للجاني وقرابته من خلال تهديد وتوبيخ  المجني عليه وقرابته !!

وتتسلسل عادة الجيرة  من خلال أعمالها التالية :

- يقوم الجاني وقرابته بطلب الجيرة والمنع من قبيلة أخرى تربطها بقبيلة الجاني وبقبيلة المجني عليه قرابة محددة بموجب قانون هذه الأحكام الجاهلية ...

ولعمر الله ما نشأت عادة الجيرة إلا لضبط وتعزيز عادة المثار  ، والتي لا تقل إثما عنها ... وهكذا هي المعصية ، تلحق بأختها وتنادي بها ، وإن شؤمها يلحق بأهلها من حيث لا يحتسبون ، وخاصة إذا كانت في أمر عظيم كهذا الأمر الذي هو ترك شريعة الله وتحكيم غيرها في دماء المسلمين .

- تقوم القبيلة المجوّرة والمانعة بحمل السلاح ومنع الجاني وقرابته ، وتهديد وتوبيخ المجني عليه وقرابته بالسلاح وبالكلام العنيف والبذيء بعدم المساس بالجاني أو بأي أحد من قرابته ...
ولا يقلّ هذا شناعة عن عادة المثار ... فقد مُنع الجاني بالقوة والتهديد، ولم يبال هؤلاء بقول المصطفى r : "لعن الله من آوى محدثا "  أي منع أو حمى ظالما أو معتديا .

وكان الأولى بهم شرعا وعقلا مواساة المجني عليه ... فإنه مظلوم مكلوم ، وحقه نصرته ومواساته ... بدلا من إهانته وإهانة قرابته وتهديدهم !! لكنه قانون الجاهلية المبني على الظلم أساسا واعتبارا !! كما انطوى هذا العمل على تقرير واعتبار عادة المثار واستباحة دماء قرابة الجاني بموجبها ، وأنها حق مشروع للمجني عليه وقرابته !! وكان الواجب عليهم عدم حماية الجاني ، والإنكار على المجني عليه و قرابته استحلالهم دماء قرابة الجاني .

- تكون لهذه الجيرة مدة محددة في هذا القانون ، وحسب الجناية، فتكون الجيرة سنة وشهرين في جناية القتل ، وتكون ستة أشهر في جناية الجروح والكسور ، وتكون ثلاثة أشهر في جناية الضرب فقط ( مع بعض الاختلافات بينهم في هذه المدد حسب السلم والعادة عند القبيلة ) .

- إذا اعتدت قرابة المجني عليه على قرابة الجاني ، فإن القبيلة المجوّرة تقوم بأخذ الثأر من قرابة المجني عليه ومن أي فرد منهم !!  لاعتدائهم على وجهها وجيرتها ...  وهذا ما يُعرف عندهم بمثار الجيرة أو الوجه ، أما لو تجوّر المجني عليه وقرابته جيرة الأسود ، فإن القبيلة المجوّرة المُغضَبة تطلب حكما قبَليّا يرد اعتبارها ويحفظ وجهها .

- إذا لم يتجوّر الجاني وقرابته ... فإن قرابة المجني عليه يرون ذلك إهانة لهم وتقليلا من شأنهم ، فيطلبون التحاكم إلى مقطع حق لإنصافهم وردّ اعتبارهم !! وما هذا إلا من سيطرة تلك العادات والأحكام على حياتهم وعقولهم ... حتى لو بُنيت على باطل لا أصل له شرعا ولا عقلا !!

- جيرة الغضب أو جيرة الأسود : تتضمن عادة الجيرة قانونا استثنائيا يُلجأ إليه في حالة الطوارئ ، وهو ما يسمونه جيرة الغضب أو جيرة الأسود ، حيث يحق لمن اعتدى على القبيلة المستجيرة طلب الإجارة من قبيلة أخرى ولمدة ثمانية أيام !! ويسمونها أيضا ثمان الأسود !! أو المجليات!!

فعجبا كيف انتكست عقولهم ؟!  فيهدّدون الدماء البريئة بإراقتها !! وهم يزعمون في الأصل أنهم حماة هذه الدماء !! وكيف يرى هؤلاء أن عادة الجيرة بتنظيماتها تكف الشر وتحقن الدم !! وهي قائمة من أولها إلى آخرها على تهديد هذه الدماء !! وسيأتي دفع هذه الشبهة .

-" الجيرة ردع للمطلق ، وناموس للفسل " !!  عبارة مشهورة يرددونها حول الجيرة ومكانتها ، فالجيرة إذن مشهد افتخار وكبرياء !!  فإنها كما تُرضي القوي الظالم ، فإنها كذلك تنفخ في الضعيف العاجز عن الظلم والاعتداء وتجعل له شأنا واعتبارا !!  وكفى بهذه مفسدة .
 ================

تقرير الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله لحقيقة وحكم عادة الجيرة :
قرر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله حقيقة عادة الجيرة وحكمها في رسالته الوافية " فتوى جامعة في العادات والأعراف القبلية المخالفة للشرع المطهّر " جمع فيها خلاصة فتاوى العلماء في العادات والأعراف القبليّة ، فقال :

" 12-ومنها أيضا: إيواء الجاني وحمايته ، سواء كان ذلك مطلقا أم لمدة محدودة ، فبعض القبائل تعمد إلى إيواء الجاني والدفاع عنه إذا دخل في حماها ولاذ بها ، وهذا منكر لا يجوز فعله ، فيحرم إيواء الجاني أو التستر عليه ، بل الواجب الإبلاغ عنه وتسليمه إلى السلطات المسئولة " .

ولو كانت الجيرة للجاني فقط حتى يُسلّم للسلطة المسؤولة لكانت أمرا مقبولا يكف الشر بين الناس ، ويُشكر فاعلُه ، لكن الواقع على خلاف هذا تماما ، فقد تبيّن فيما مضى أنها تقنين قديم لا بد من الالتزام به .

وهذا يبين حقيقة قيام هذه العادات على جريمة إراقة الدماء وبغير حق ، فضلا عن منافاتها للشريعة وسماحتها وحقنها لدماء المسلمين بل وغير المسلمين .
 ============ 

شبهة : أن الجيرة تكف الشر وتحقن الدماء :
يذكر البعض بأن الجيرة تكف الشر وتحقن الدماء حتى يَصلحَ الناس بينهم ، ويستدلون بنصوص شرعية أنها تؤيد ذلك بزعمهم ، منها قول الله : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّـى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ )  التوبة 6
وغيرها من نصوص الشريعة في الجيرة والأمان ...

والحقيقة أن هذه الشبهة باطلة ولا حقيقة لها في ميزان الإسلام بأي وجه من الوجوه ... ويتبين بطلانها من خلال النقاط التالية :

1. عندما يذكر العلماء أحاديث الجيرة فإنهم يذكرونها تحت مسمى العهد أو الذمة أو الأمان ... ويذكرونها في أبواب الجهاد ... لأنها تنظّم العلاقة بين المسلمين والكفار المحاربين ، لان الأصل في دماء الكفار الاستحلال ما داموا محاربين .

2. من المنكر العظيم تطبيق هذا الاستدلال بين المسلمين بعضهم بعضا !! فإن الأصل في دماء المسلمين الحرمة الشديدة ... فلا  يحل أبداً استحلال هذه الدماء تحت أي دعوى أو ذريعة ، وبالتالي فلا تحتاج دماء المسلمين إلى منعها وحمايتها أخذاً بأحكام الشريعة في ذلك .

3. إن عهد الجوار والأمان حق من حقوق ولي الأمر ، وليس لأحد أن يفتئت ويتجرأ على ولي أمر المسلمين فيتطاول على هذا الحق ، ويعمل فيه بأهوائه !!  علما أن أهل عادة الجيرة يخفون جيرتهم عن السلطة . 
            وأما احتجاجهم بقول الله U :(وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّـى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه ) التوبة ٦ ، فان الآية واضحة وصريحة في أنها في المشركين ... حتى يسمعوا كلام الله U وتقوم عليهم الحجة، وليست في المسلمين ... الذين عصم الله U دماءهم وأموالهم إلا بحكم الإسلام ... لا بحكم الجاهلية .
وأما احتجاجهم بجوار أم هانيء رضي الله عنها ، فقد كان جوارها لمشرك استجار بها من المسلمين ، وكان النبي r قد أهدر دمه ..  ولم يَمضِ جوارها رضي الله عنها إلا بعد إقرار النبي r لذلك الجوار ، فقال r : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " ، فالاحتجاج بجوار  أم هانيء من العبث والجهل .
وأما احتجاجهم بإجارة جبير بن مطعم للنبي r عند عودته من الطائف فهي حماية له من كفار مشركين ، وفي زمن ليس للإسلام فيه دولة ولا سلطان ، فأين الشاهد في ذلك ... ونحن مسلمون وفي بلد مسلم وفي ظل حكم مسلم ؟!!

أما هؤلاء ... وبحكم عاداتهم ، فإنهم يجوّرون معتدين أمام خصومهم من المسلمين ، وبغير إذن ولي الأمر ، كما أنهم يجوّرون أناسا معفين لا ذنب لهم ولا جريمة !!  فأثبتوا لخصومهم حقا في دمائهم المعصومة ظلما وعدوانا ، ومن حيث لا يشعرون ...

4. ينخدع البعض بأن الجيرة تحمي دماء المعفين الأبرياء !! ويستدرّ هذا الأمر عواطفهم !! ونسوا حلقات هذه العادة المتسلسلة المشينة !!       بدءاً بتهديد وتوبيخ القبيلة المجوّرة للمجني عليه وقرابته بالسلاح وقبيح الكلام !! بينما حقهم المواساة والنصرة ... ثم تهديدهم بإراقة دمائهم في حالة اعتداء أحد منهم على الجاني أو قرابته (البريئة) !! ونسوا أن ذلك تأكيد على حقوق الجاهلية في إراقة دماء القرابات أخذاً بالمثار في حالة الاعتداء على الدماء أو الجاه أوالشرف !! فجعلت هذه الدماء مستباحة !!

وإن الكثير من الناس عند محاورته يذكر علانية أن الجيرة شرّ لا شك في ذلك !! وأن مفاسدها أكبر من مصلحتها المتوهَّمة ( حماية دماء المعفين الأبرياء ) ... التي لا حماية لها إلا بالكف عن تهديدها مطلقاً ، وفقاً لأحكام شريعة الإسلام الخالدة .

ولقد حرم الله  U الخمر لكثرة مفاسدها ، مع أن فيها منافع للناس ، ذكر علماء التفسير  أنها تزيد على ثمان منافع ، قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) البقرة ٢١٩

5.  من المعلوم عند أهل هذه العادات أنها عادات آخذ بعضها ببعض ... فلا يمكن بأي حال أن يأخذ أحد بعادة الجيرة فقط !! دون أن يتسلسل مع باقي تلك العادات ... من حكم قبَليّ وقبالة وغرم !! فهي قانون متكامل يعرف أهله استحالة أخذ بعضه وترك بعضه الآخر ، فلا حقيقة لدعوى أن للجيرة حاجة خاصة لحماية الدماء ، بل الصحيح أنها الطعم الذي يتم به توريط الناس في أحكام الجاهلية .

6. حقيقة الجيرة أنها توريط للقبائل في بعضها ، وانشاب للناس في الناس، وإغراق للمجتمع في شبر ماء !!  فبدل أن تكون المشكلة بين مسلمَيْن اثنين يسهل حلّها وإرضاء أطرافها... أصبحت مشكلة بين ثلاث قبائل ( قبيلة الجاني وقبيلة المجني عليه والقبيلة المجوّرة ) ، وقد تمتد إلى أكثر من ذلك ، مما تسبب في إتلاف النفوس ، وشتات المجتمع المسلم وتناحره  ، من أجل مشكلات أكثرها فيما لا يرضي الله U .

وأخيرا ... فإن الجيرة منبت الفخر والكبرياء ، وفساد النفوس ، فإنهم يقولون : الجيرة ردع للمطلق ، وناموس للفسل !! أي أنها تردع القوي الظالم عن إراقة دماء الآخرين ، كما أنها فخر وتعزيز للضعيف العاجز عن المجاراة في الظلم والبغي ... وكفى بهذه مفسدة خبيثة .